ـ غزوة حنين
بعد أن فتح الله مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة ، تجمعت هوازن لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في " سيرة ابن هشام " .
ونذكر من دروس هذه المعركة ما يلي:
1- ما كان من غزور مالك بن عوف وعدم استماعه لنصيحة دريد ابن الصمة حرصاً منه على الرئاسة ، واغتراراً منه بصواب فكره ، وتكبراً عن أن يقول قومه ـ وهو الشاب القوي المطاع ـ : قد أستمع إلى نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه رمق من قوة ، ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنب قومه الخسارة الكبيرة في أموالهم ، والعار الشنيع في سبي نسائهم ، ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان الشعوب موارد الهلكة ويجعلان عاقبة أمرها خسراً ، فقد أبى له غروره أن يستسلم لقوة الاسلام التي ذلت لها كبرياء قريش بعد طول كفاح وشديد بلاء ، وظن أنه بما معه من رجال وما عنده من أموال ، يستطيع أن يتغلب على قوة الاسلام الجديدة في روحها ، وفي أهدافها ، وفي تنظيمها عليه وعلى قومه ، ثم أبى له غروره إلا أن يخرج معه نساء قومه وأموالهم ليحول ذلك دون هزيمتهم ، وعدا نصيحة دريد الذي قال له : إن المنهزم لا يرده شيء ، فإنه غفل عن أن المسلمين الذين سيحاربهم لا يستندون في رجاء النصر على مال ولا عدو ولا عدة ، وإنما يستندون إلى قوة الله العزيز الجبار ، ووعده لهم بالنصر والجنة ، ولا يمتنعون عن الهزيمة رغبة في الاحتفاظ بنسائهم وأموالهم ، بل رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه الذي توعد المنهزمين في ميادين الجهاد بأليم العذاب وشديد الانتقام ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَؤْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأوَاه جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرِ) [ الأنفال : 16 ] .
وهكذا حلت الهزيمة بمالك وقبيلته هوازن ومن معه ، ولم يقتصر شؤم غروره وكبريائه عليه وحده ، بل أصاب قومه جميعاً ، لأنهم أطاعوه في هذا الغرور ، ولما أنذرهم بأنهم إن لم يستجيبوا له ، بقر بطنة بالسيف ، سارعوا إلى طاعته ، ولو أنهم ابتغوا نصيحة شيخهم المجرب ،وكفكفوا من كبرياء زعيمهم الشاب ، ولما أصابهم ما أصابهم ، لقد خافوا من غضب هذا الزعيم المغرور عليهم ، ولو أنهم سألوا أنفسهم : ماذا يكون لو أغضبناه ؟ لكان الجواب : انهم يفقدون زعيمهم ! وماذا في هذا ؟ ماذا في ذهاب زعيم مغرور أناني يريد أن يستأثر بشرف المعركة دون من هم أقدم وأخبر منه بالمعارك وشؤونها ؟ وهل توازي حياة شخص حياة قبيلة أو أمة من الناس بأكملها؟ لقد حذرنا الله في القرآن من نتيجة هذا الاستسلام الجماعي لأهواء المغرورين من الكبراء والزعماء ، يقول الله تعالى في قصة موسى مع فرعون ( فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأطَاعُوهُ ، إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَاً فَاسِقِينَ ، فَلمَّا آسَفُونَا ( أغضبونا باعراضهم عن الحق واتباعهم لطاغيتهم المغرور ) انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجْمَعِينَ . فَجَعْلنَاهُمْ سَلفاً (قدوة للعقاب ) وَمَثَلاً لِلآخَرِينَ ) [ الزخرف : 54 ـ 56 ] .
2- ما كان من استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها من السلاح من الكافر ، أو استعارته على أن لا يؤدي ذلك إلى قوة الكافر واستعلائه ، واتخاذه من ذلك وسيلة لأذى المسلمين وإيقاع الضرر بهم ، فقد استعار الرسول من صفوان السلاح بعد فتح مكة ، وكان صفوان من الضعف والهوان بحيث لا يقوى على فرض الشروط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يدل على ذلك قوله للرسول حين طلب منه ذلك : أغصباً يا محمد ؟ فأجابه الرسول : " بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك " .
وفي هذا أيضاً مثل من أمثلة النبل في معاملة المسلمين لأعدائهم المنهزمين ، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذها منه غصباً لاستطاع ، ولما قدر صفوان أن يقوم شيئاً ، ولكنه هدي النبوة في النصر ومعاملة المغلوبين ، والعف عن أموالهم بعد أن تنتهي المعركة ويلقواالسلاح ، وما علمنا أن أحداً فعل هذا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده ، وفيما شهدناه من معاملة الجيوش المنتصرة للمغلوبين وسلب أموالهم وكراماتهم وحقوقهم أكبر تأييد لما قلنا ( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) [ الأحزاب : 4] .
3- حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في هذه المعركة ،وكان معه أثناء عشر ألفاً : ممن خرجوا معه من المدينة فشهدوا فتح مكة ، وهم المهاجرون والأنصار ، والقبائل التي كانت تجاور المدينة ، أو في طريق المدينة ، ألفان ممن أسلموا بعد الفتح ، وكان أكثر هؤلاء ممن لم تتمكن هداية الاسلام في قلوبهم بعد ، وممن دخلوا في الإسلام بعد أن أنهارت كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه ، ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين باعوا لله أرواحهم وأنفسهم في سبيل إعزاز دينه ، وفيه كان الضعاف في دينهم ، والمنافقون الذين أسلموا على مضض وهم ينطوون على الحقد وعدم، الإيمان بالاهداف التي يحاربون من أجلها ، وفيه الراغبون في غنائم النصر ومكاسبة ، ولذلك كانت الهزيمة أول الأمر شيئاً غير مستغرب ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه : " لن نغلب اليوم من قلة " أي : إن مثل هذا الجيش في كثرة عدده لا يغلب إلا من أمور معنوية تتعلق بنفوس افراده ، تتعلق بإيمانهم وقوة أرواحهم واخلاصهم وتضحياتهم ، وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة ، وهي أن النصر لا يكون بكثرة العدد ،ولا بجودة السلاح ، وإنما يكون بشيء معنوي يغمر نفسي المحاربين ، ويدفعهم إلى التضحية والفداء ، وقد أكد القرآن الكريم على هذا في غير موضع ، فقال تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةٍ بِإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرينَ ) [ البقرة : 249 ] .
وفي الآيات التي نزلت بعد انتهاء المعركة ما يشير بصراحة إلى هذا المعنى ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ ِعَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَليْكُمْ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُوداً لمْ تَرَوهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرينَ ) [ التوبة : 25-26] .
4- وفي قول بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة : يا رسول الله لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم :" قلتم ـ والذي نفس محمد بيده ـ كما قال قوم موسى لموسى " ( اجْعَلْ لَنَا إلَهَاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلونَ ) [ الاعراف : 138 ] إنها السنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم : .
في هذا إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه الأمة من تقليد الأمم السابقة لها ، وفيه تحذير من ذلك ، وأنها لا تسلكه إلا من غلبة الجهالة عليها ، فالأمم التي تعرف وجوه الخير والفساد ، وطريق الضرر والنفع ، تأخذ الخير وتتسمك به ، وتعرض عن الفساد و تفر منه ، وتأبى أن تسلك أي طريق يضر بها ولو سلكته الأمم وسارت فهي ، فإذا سارت في طريق التقليد غير عابئة بنتائجه ، كانت قد وضعت الشيء في غير موضعه ، وهذا هو الجهل الذي قال عنه : ( إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلون ) ، والأمة الواثقة بنفسها ، المعتزة بشخصيتها ، المطمئنة إلى ما عندها من حق وخير تأبى أن تسير وراء غيرها فيما يؤذيها وينافي مبادئها ، فاذا قلدت ، كانت ضعيفة الشخصية ، مضطربة التفكير ، مستسلمة للأهواء ، متردية في الضعف والانحلال ، وتلك هي الجاهلية التي أنقذنا الله منها برسوله وكتابه وشريعته ، ليس العلم والجهل في نظر دعوات الاصلاح هما القراءة والأمية ، وإنما هما الهدى والضلال ، والوعي الغباوة ، فالأمة الواعية لما يفيدها وما يضرها ، هي الأمة العالمية ولو كانت أمية ، والأمة التي لا تهتدي إلى الخير سبيلا ، هي الأمة الجاهلة ولو كانت تعرف شتى العلوم ، وتحيط بمختلف الثقافات .
إن الذي هو ويهوي بالامم ـ أي أمة كانت ـ انما هو استيلاء الجاهلية على عواطف أبنائها وأهوائهم ، واسألوا التاريخ : هل انهارت حضارة اليونان والرومان الا بسيطرة الجاهلية عليها . إن المقلدين جهال مهما تعلموا ، أطفال مهما كبروا ، وسيظلون أولاداً جهالاً حتى يتحرروا .
5- في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول الامر ، وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ظن شيبه بن عثمان أنه سيدرك ثأره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه قد قتل في معركة أحد ، قال شيبة : فلما اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقتله أقبل شيء حتى تغشى فوادي ، فلم أطق ذاك ، وعلمت أنه ممنوع مني .
ولقد تكررت في السيرة مثل هذه الحادثة ، تكررت مع أبي جهل ، ومع غيره في مكة ، وفي المدينة ، وكلها تتفق على أن الله قد أحاط رسوله بجو من الرهبة أفزع الذين كانوا يتآمرون على قتله ، وهذا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة ، وعلى أن الله قضى بحفظ نبيه من كل كيد ، وببقائه حياً ، حتى يبلغ الرسالة ، ويؤدي الأمانة ، وينقذ جزيرة العرب من جاهليتها ، ويقف بأبنائها في وجه الدنيا ، يعلمون ، ويهذبون ، وينقذون ، ولولا حماية الله لرسوله ، لقضي المشركون على حياته منذ أوائل الدعوة ، ولما كمل الدين ، وتمت النعمة ، ووصل إلينا نور الرسالة وهدايتها ورحمتها ، ولما تحول مجرى التاريخ تحوله الذي خلص الانسانية من عمايتها وشقائها بانتشار الاسلام ، وانتهاء عهود التحكم بالشعوب ، والاستبداد بتصريف شؤونها ، من ملوك ورؤساء أقاموا سلطانهم على البغي والظلم ، ومنع الشعوب من أن تشعر بكرامتها ، أو تثأر لظلامتها ، ولقد تم كل هذا بفضل حماية الله لرسوله ، حتى أدى الأمانة كاملة غير منقوصة .
لا جرم أن فضل الله كان على رسوله عظيماً ( وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَليكَ عَظِيمَاً ) [ النساء : 113 ] . وأن فضل رسول الله على البشر كان عظيماً ، ( وَمَا أرْسَلنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلعَالمِينَ ) [ الأنبياء : 107 ] . ولا جرم في أن نجاة دعاة الحق من كيد أعدائه ومن تربصهم بهم ، هو استمرار لذلك الفضل العظيم الذي ابتدأ بحماية رسوله .
وأن على الدعاة أن يلجؤوا دائماً ـ بعد الاحتراس والحذر ـ إلى كنف الله ، ويحتموا بعزته وسلطانه ، ويثقوا بأن الله معهم نصير ، ولهم حافظ وأن من أراد الله له النجاة من كيد أعداء الهداية سينجو مهما يكن سلطانهم شديد الوطأة ، عظيم الكيد والتآمر والإجرام ، فالحماية حماية الله ، والنصر نصره ، والخذلان خذلانه ، والنافذ قضائه وأمره ، ( إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) [ آل عمران : 160] ومهما يعظم كيد الانسان الظالم ، فإن نصر الله العدل أعز وأعظم ، فلا يجبن داعية ولايخف مصلح ، ولايتأخر عن تأدية الحق مؤمن بالله واثق بعونه وتأييده ( وَكانَ حَقاً عَليْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ) [ الروم : 47 ] ( إنَّ الذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أولئِكَ فِي الأذَلِّينَ ، كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إنَّ اللهَ قَوَيٌّ عَزِيزٌ ) [ المجادلة : : 20 ـ 21 ] ولا ينافي هذا نجاح أعداء الله في الوصول إلى بعض أئمة الهدى من دعاة الاصلاح ، وتمكنهم من القضاء عليهم ، أو إيقاع الأذى بهم ، فإن الموت حق ، وهو نصيب ابن آدم لامحالة ، فمن يكتب عليه الموت بأيدي الظالمين ، فانما هي كرامة أكرمه الله بها ، وفضل أنعم به عليه ، وكل موت في سبيل الله شهادة ، وكل أذى في دعوة الحق شرف ، وكل بلاء بسبب الإصلاح خلود ( ذَلِكَ بِأنَّهُمْ لا يُصِيبَهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئَاً يَغِيظُ الكُفَّارَ ، وَلا يَنَالونَ مِنَ عَدُوٍّ نَيلاً إلا كُتِبَ لهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ،إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ ) [ التوبة: 120 ] .
6- فوجئ المسلمون أول المعركة بكمين أعدائهم لهم ، مما أدى إلى وقوع الخلل في صوف المسلمين وأضطرابهم وتفرقهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت معه إلا القليل ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينادي: إلى أيها الناس ! هلموا إلى ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبدالله ، فلم يسمع الناس صوته ، فطلب من العباس ـ وكان جهوري الصوت ـ أن ينادي في الناس ، : يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة ! فأجابوا : لبيك لبيك ، فيذهب الرجل ليثني بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه ، فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا اجتمع اليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ثم كان النصر